كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفيه: أن مجاورة عرب الجزيرة مصر وكلدان واختلاطهم بهم أو استعمارهم واستيلاؤهم عليهم لا يوجب تبدل لغاتهم إلى العربية، وقد كانت لغة مصر قبطية ولغة كلدان والاشوريين سريانية، نعم ربما أوجب ذلك دخول أسماء وألفاظ من لغة بعضهم في لغة بعض كما بوجد في القرآن الكريم أمثال القسطاس والاستبرق وغيرهما وهى من الدخيل.
وأما ما ذكره من أمر حموربى ومعاصرته لابراهيم عليه السلام فلا يطابق ما هو الصحيح من تاريخه ويؤيده الاثار المكشوفة من خرائب بابل والنصب المستخرجة التي كتبت فيها شريعته التي وضعها وأجراها في مملكته وهى أقدم القوانين المدونة في العالم على ما بلغنا، وقد ذكر بعضهم أن أيام ملكه كانت بين (1728) ق م و(1686) ق م، وذكر آخرون: أنه تملك بابل سنة (2232 2287) ق م (1) وكان إبراهيم عليه السلام يعيش في حدود سنة (2000) ق م، وحموربى هذا وثنى، وقد استمد فيما وجد من كلامه المنقوش في ذيل شريعته المنقوشة على النصب بعدة من الالهة لبقاء شريعته وعمل الناس بها وتدمير من أراد نسخها أو مخالفتها (2).
وأما ما ذكره من حديث إسكانه ابنه وأم ولده بتهامة وبناء بيت الله الحرام ونشر دين الله وتفاهمه مع العرب فشئ من ذلك لا يدل على كونه عليه السلام متكلما باللغة العربية وهو ظاهر.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: قوله: {فلما رأى الشمس بازغة} الخ- كما سمعت- يدل على اتصال ما بعد {فلما} بما قبله وهو قوله: {فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين} فهو يدل على أن القمر قد كان غرب حينما رأى عليه السلام الشمس بازغه، وهذا إنما يكون في الخريف أو الشتاء في العرض الشمالي الذي كانت فيه بلاد كلدان حين يطول الليالى وخاصة إذا كان القمر في شيء من البروج الجنوبية كالقوس والجدى فعند ذلك يجيز الوضع السماوي أن يغرب القمر في النصف الاخير من الشهر القمرى قبل طلوع الشمس، وقد تقدم سابقا في قوله تعالى: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربى} أن ظاهر الكلام المؤيد بالاعتبار يدل على أن الليلة كانت من ليالى النصف الاخير من الشهر القمرى، وكان الكوكب هي الزهرة شاهدها أولا في المغرب حال الانحطاط ثم شاهد غروبها وطلوع القمر من ناحية المشرق.
فيتحصل من الآيات أن إبراهيم عليه السلام حاج قومه في أمر الأصنام يوم حاجهم واشتغل بهم يومه ذلك حتى جن عليه الليل فلما جن عليه الليل رأى الزهرة وقوم يعبدونها فجاراهم في ربوبيتها وأخذ ينتظر ما يحل بها من حال حتى أفلت بعد سويعات فحاجهم به وتبرأ من ربوبيتها، ثم رأى القمر بازغا وهناك قوم يعبدونه فجاراهم في ربوبيته بقوله: {هذا ربى} وأخذ يراقب ما يحدث به حتى أفل، وكانت الليلة من الليالى الطوال في النصف الثاني من الشهر القمرى ولعل القمر كان يسير في قوس قصير من أقواس المدارات الجنوبية فلما أفل تبرأ من ربوبيته، وأخذ يستهدى ربه ويستعيذ به من الضلال حتى طلعت الشمس فرآها بازغة وأكبر بالنسبة إلى ما تقدمها من الكوكب والقمر فعاد كذلك إلى مجاراتهم في ربوبيتها مع ما لاح له من بطلان ربوبية الكوكب والقمر وهما مثلها في كونها جرما سماويا نيرا لكنه اتخذ كونها أكبر منها عذرا يعتذر به فيما يفترضه أو يسلمه من ربوبيتها فقال: {هذا ربى هذا أكبر} وأخذ ينتظر مستقبل الأمر حتى أفلت فتبرأ من ربوبيتها وشرك قومه فقال: {يا قوم إنى برئ مما تشركون} ثم أثبت الربوبية لله سبحانه كما كان يثبت الالوهية بمعنى إيجاد السماوات والأرض وفطرها له تعالى فقال: {إنى وجهت وجهى} وهو العبودية قبال الربوبية- {للذى فطر السماوات والأرض حنيفا} غير منحرف من حاق الوسط إلى يمين أو يسار {وما أنا من المشركين} بإشراك شيء من خلقه ومفطوراته له تعالى في العبادة والإسلام.
وقد تقدم أن قوله تعالى في ضمن الآيات محفوفا بها: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} يدل على أنه عليه السلام إنما كان يأخذ ما يلقيه من الحجة على أبيه وقومه مما كان يشاهده من ملكوت السماوات والأرض، وقد أفاض الله سبحانه اليقين الذي ذكره غاية لاراءته الملكوت على قلبه بهذه المشاهدة والرؤية.
وهذا أوضح شاهد على أن الذي ذكره عليه السلام من الحجة كانت حجة برهانية ترتضع من ثدى اليقين، وقد أورد في ذلك قوله: {لا أحب الآفلين} وتقدمت الإشارة إلى تقريره.
فتبين من جميع ما تقدم: أولا: أن قوله عليه السلام: {لا أحب الآفلين} حجة برهانية يقينية بنى الكلام فيه على عدم حبه للافلين، ومنافاة الافول للربوبية، ويظهر من كلام بعضهم أنه يأخذه حجة عامية غير برهانية إذ يقول: والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا لا برهانا نظريا جليا يعرض فيه بجهل قومه في عبادة الكواكب أنهم يعبدون ما يتحجب عنهم، ولا يدرى شيئا من أمر عبادتهم، وهذا هو السبب في جعله الافول منافيا للربوبية دون البزوغ والظهور بل بنى عليه القول بها فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه، هذا.
وقد خفى عليه أولا: أن وضع قوله: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} بين الآيات المتضمنة لحججه عليه السلام أدل دليل على كون حججه مأخوذه من مشهوداته الملكوتية التي هي ملاك يقينه بالله وآياته وكيف يتصور مع ذلك كونها حجة عامية غير برهانية.
وخفى عليه ثانيا أن الحجة بنيت على الحب وعدمه لا على الافول مضافا إلى أن البناء على الافول أيضا لا يخرجها عن كونها برهانية فهو عليه السلام إنما ذكر سبب براءته من ربوبيتها أنه وجدها آفلة غاربه وهو لا يحب الآفلين فلا يعبدها، ومن المعلوم أن عبادة الإنسان لربه إنما هي لأنه رب أي لأنه يدبر أمر الإنسان فيفيض عليه الحياة والرزق والصحة والخصب والامن والقدرة والعلم إلى غير ذلك مما يحتاج إليه في بقائه فهو متعلق الوجود بربه من كل جهة، ومن فطريات الإنسان أن يحب ما يسعده مما يحتاج إليه وأن يحب من يسعده بذلك لا يرتاب فيه ذو ريب البتة فإنما يعبد الرب لأن الإنسان يحبه لجلبه المنافع إليه أو لدفعه المضار عنه أو لهما جميعا.
ومن فطريات الإنسان أيضا أنه لا تتعلق نفسه بما لا بقاء له إلا أن يحول حرص أو شبق أو نحوهما نظره إلى جهة اللذة ويصرفه عن التأمل والامعان في جهة فنائه وزواله، وقد استعمل القرآن الكريم هذه الطريقة كثيرا في ذم الدنيا، وردع الناس عن التعلق المفرط بزينتها والانهماك في شهواتها كقوله: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس} [يونس: 24] وقوله ما: {عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل: 96] وقوله: {وما عند الله خير وأبقى} [الشورى: 36].
فهو عليه السلام يفيد بقوله: {لا أحب الآفلين} أن الذي من شأنه أن يفقده الإنسان ويغيب عنه ولا يبقى ولا يثبت له لا يستحق أن يحبه الإنسان وتتعلق به نفسه، والرب الذي يعبده الإنسان يجب أن يحبه فيجب أن لا يكون من شأنه أن يأفل عنه ويفقد فهذه الاجرام الافلة لا تستحق اسم الربوبية، وهذه- كما ترى- حجة يعرفها العامة والخاصة.
وقد خلط ثالثا بين البزوغ والظهور فحكم أنه غير مناف للربوبية بل القول مبنى عليه فأن من صفات الرب أن يكون ظاهرا إلى آخر ما قال فإن الذي ذكر في الآية- ولم يبن الحجة عليه- هو البزوغ وهو الطلوع والظهور بعد خفاء المنافى للربوبية فيبقى السؤال: لم بنى الكلام على الافول دون البزوغ؟ على حاله.
وثانيا أن أخذ الافول في الحجة دون البزوغ إنما هو لأن البزوغ لا يستوجب عدم الحب الذي بنى الحجة عليه بخلاف الافول، وبذلك يظهر ما في قول الكشاف في وجه العدول، قال: (فإن قلت: لم احتج عليهم بالافول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالافول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب) انتهى.
فإن الاحتجاج كما عرفت إنما هو بعدم تعلق الحب لا بالافول حتى يوجه العدول إليه من البزوغ بما ذكره.
وثالثا: أن الاحتجاج إنما أريد به نفى ربوبية الاجرام الثلاثة بمعنى تدبيرها للعالم الارضى أو العالم الإنساني لا الربوبية بمعنى المقام الذي ينتهى إليه الايجاد والتدبير فإن الوثنية وعبدة الكواكب لا ينكرون أن آلهتهم ليست أربابا بهذا المعنى، وأنه الله الواحد لا شريك له.
ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن الافول إنما أخذ مبدا للبرهان لأنه يستلزم الامكان، وكل ممكن محتاج يجب أن يقف سلسلة حاجته عند موجود واجب الوجود، وكذا ما في قول آخرين: إن الافول إنما ينفى الربوبية عن المتصف به لأنه حركة، ولابد لكل حركة من محرك، وينتهى لا محالة إلى محرك غير متحرك وثابت غير متغير بذاته وهو الله عز اسمه.
وذلك أنهما وإن كانا حجتين برهانيتين غير أنهما تنفيان عن الممكنات وعن المتحركات الربوبية بمعنى العلية الأولى التي ينتهى إليها جميع العلل، وسببية الايجاد والتدبير التي يقف عندها جميع الأسباب، وعبدة الكواكب من الصابئين وغيرهم وإن ذهبوا إلى أن كل جرم سماوي قديم زماني غير قابل للكون والفساد متحرك بحركة دائمة غير أنهم لا ينكرون أن جميعها معلوله لامكانها غير مستغنية لا في وجودها ولا في آثار وجودها عن الواجب عز اسمه.
فالحجتان نما هما قائمتان على منكري وجود الصانع من الطبيعيين لا الصابئين وعبدة أرباب الانواع وغيرهم من الوثنيين، وإبراهيم عليه السلام انما كان يحاج هؤلاء دون أولئك.
على أنك عرفت ان الحجة لم تركب من جهة الافول بل من جهة عدم تعلق الحب بشئ من شأنه الافول والغروب.
وأما من دفع ما ذكروه من تقرير الحجة من جهة الامكان أو الحركة بأن تفسير الافول بذلك تفسير للشئ بما يبانه فإن العرب لا يعرفون الافول بمعنى لامكان أو الحدوث وكذلك تفسير الافول بالتغير والحركة غلط كسابقه.
فقد خفى عليه أن هؤلاء لا يقولون: إن الافول في الآية بمعنى الإمكان أو بمعنى الحركة، وانما يقولون: إن الأفول انما احتج به لاستلزامه الامكان أو الحركة والتغير، وأما الافول بمعنى الغيبة بعد الحضور والخفاء بعد الظهور مع قطع النظر عن إستلزامه الامكان أو التغير غير اللائقين بساحة الواجب جل ثناؤه فليس ينافى الربوبية كما اعترف به هذا المورد نفسه.
وذلك أن الواجب تعالى أيضا غائب عن مشاعرنا من غير أن يتحول عليه الحال ويطرأ عليه التغير بالغيبة بعد الحضور والخفاء بعد الظهور، ولا ينفع القول بأن الغيبة والخفاء فيه تعالى من جهتنا لا من جهته ولاشتغالنا بما يصرفنا عنه لا لمحدودية وجوده وقصور استيلائه فإن غيبة هذه الاجرام السماوية وخاصة الشمس بالحركة اليومية أيضا من قبلنا حيث إنا أجزاء من الأرض التي تتحرك بحركتها اليومية فتحولنا بها من مسامته هذه الاجرام ومواجهتها إلى خلاف ذلك فنغرب عنها في الحقيقة بعد طلوعنا عليها وان كان الخطأ الحسى يخيل لنا غيره.
وقد أراد الرازي أن يجمع بين الوجوه جميعا فقال في تفسيره ما نصه الافول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول: الافول انما يدل على الحدوث من حيث انه حركة، وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضا دليلا على الحدوث فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطوع وعول في اثبات هذا المطلوب على الافول؟.
والجواب: لا شك ان الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لابد وأن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكى والغبى والعاقل، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الافاضل من الخلق، أما دلالة الافول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الافول فكانت دلالة الافول على هذا المقصود أتم.
وأيضا قال بعض المحققين: الهوى في خطرة الامكان افول وأحسن الكلام ما تحصل فيه حصة الخواص وحصة الاوساط وحصة العوام: فالخواص يفهمون من الافول الامكان وكل ممكن محتاج لا يكون مقطوع الحاجة فلابد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الامكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: وأن إلى ربك المنتهى.
وأما الاوساط فإنهم يفهمون من الافول مطلق الحركة فكل متحرك محدث، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الافل إلها بل الإله هو الذي يحتاج إليه ذلك الافل.
وأما العوام فإنهم يفهمون من الافول الغروب، وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الافول والغروب فإنه يزول نوره، وينتقص ضوءه، ويذهب سلطانه، ويكون كالمعزول، ومن يكون كذلك لا يصلح للالهية، فهذه الكلمة الواحدة أعنى قوله: {لا احب الآفلين} كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين.
وفيه دقيقة أخرى، وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين، ومذهب أصحاب النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير، أما إذا كان غربيا وقريبا من الافول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان، ومذهبكم ان الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجز عن التدبير، وذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول المنجمين إن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته انتهى موضع الحاجة من كلامه على طوله.
وأنت بالتأمل في ما تقدم تقف على أن ما تفنن به من تقسيم البرهان إلى حصص مختلفة باختلاف النفوس، وتقريره بوجوه شتى لا لفظ الآية يدل عليه، ولا شبة الصابئين وأصحاب النجوم تندفع به فإنهم لا يرون الجرم السماوي إلها واجب الوجود غير متناهى القدرة ذا قوة مطلقة، وأنما يرونه ممكنا معلولا ذا حركة دائمة يدبر بحركته ما دونه من العالم الارضى، وشئ مما ذكره من الوجوه لا يدفع هذه النظرية، وكأنه تنبه لهذا الاشكال بعد كلامه المنقول آنفا فبسط في الكلام وأطنب في الخروج من العويصة بما لا يجدى شيئا.